سورة المائدة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{اتل} معناه اسرد وأسمعهم إياه، وهذه من علوم الكتب الأول التي لا تعلق لمحمد صلى الله عليه وسلم بها إلا من طريق الوحي، فهو من دلائل نبوته، والضمير في {عليهم} ظاهر أمره أنه يراد به بنو إسرائيل لوجهين: أحدهما أن المحاورة فيما تقدم إنما هي في شأنهم وإقامة الحجج عليهم بسبب همهم ببسط اليد إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني أن علم {نبأ ابني آدم} إنما هو عندهم وفي غامض كتبهم، وعليهم تقوم الحجة في إراده والنبأ الخبر. و{ابنا آدم} هم في قول جمهور المفسرين لصلبه. وهما قابيل وهابيل، وقال الحسن بن أبي الحسن البصري {ابنا آدم} ليسا لصلبه ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب، والصحيح قول الجمهور وروي أن تقريبهما للقربان إنما كان تحنثاً وتطوعاً. وكان قابيل صاحب زرع فعمد إلى أرذل ما عنده وأدناه فقربه، وكان هابيل صاحب غنم، فعمد إلى أفضل كباشه فقربه، وكانت العادة حينئذ أن يقرب المقرب قربانه ويقوم يصلي ويسجد، فإن نزلت نار وأكلت القربان فذلك دليل للقبول وإلا كان تركه دليل عدم القبول، فلما قرب هذان كما ذكرت فنزلت النار وأخذت كبش هابيل فرفعته وسترته عن العيون وتركت زرع قابيل، قال سعيد بن جبير وغيره: فكان ذلك الكبش يرتع في الجنة حتى أهبط إلى إبراهيم في فداء ابنه، قال سائقو هذا القصص، فحسد قابيل هابيل وقال له: أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني؟ وكان قابيل أسن ولد آدم. وروي أن آدم سافر إلى مكة ليرى الكعبة وترك قابيل وصياً على بنيه فجرت هذه القصة في غيابه، وروت جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود: أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى فكان الذكر يزوج أنثى البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته، فولدت مع قابيل أخت جميلة، ومع هابيل أخت ليست كذلك فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر، فاتفقوا على التقريب، وروي أن آدم حضر ذلك فتقبل قربان هابيل ووجب أن يأخذ أخت قابيل، فحينئذ قال له {لأقتلنك} وقوله هابيل: {إنما يتقبل الله من المتقين} كلام قبله محذوف تقديره ولم تقتلني وأنا لم أجنِ شيئاً ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما إني اتقيته وكنت على لاحب الحق. و{إنما يتقبل الله من المتقين}.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ إنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والحتم بالرحمة، علم ذلك بأخبار الله تعالى، لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلاًن وقال عدي بن ثابت وغيره: قربان متقي هذه الأمة الصلاة.
واختلف الناس لم قال هابيل: {ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك}؟ فقال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفاً وأن لا يمتنع من أريد قتله.. وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس: كان هابيل أشد قوة من قابيل، ولكنه تحرج.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا هو الأظهر، ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر، لأنه لو كان كافراً لم يكن للتحرج وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحداً ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة، ونحو هذا فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقوله: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} الآية، ليست هذه بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخير في شرين، كما تقول العرب في الشر خيار، فالمعنى إن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوماً سيستنصر الله لي في الآخرة، وتبوء معناه تمضي متحملاً. وقوله: {بإثمي وإثمك} قيل معناه: بإثم قتلي وسائر آثامك التي أوجبت أن لا يتقبل منك، وقيل المعنى: بإثم قتلي وإثمك في العداء علي إذ هو في العداء وإرادة القتل آثم ولو لم ينفذ القتل، وقيل المعنى: بإثمي إن لو قاتلتك وقتلتك وإثم نفسك في قتالي وقتلي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه»، فكأن هابيل أراد: أني لست بحريص على قتلك، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي، وقيل المعنى: بإثمي الذي يختص لي فيما فرط لي أي يؤخذ من سيئاتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي {تبوء بإثمك} في قتلي وهذا تأويل يعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم تكن له حسنات خذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه، وقوله تعالى: {وذلك جزاء الظالمين} يحتمل أن يكون من قول هابيل لأخيه، ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم.


قراءة الجمهور {فطوعت} والمعنى أن القتل في ذاته مستصعب عظيم على النفوس، فردته هذه النفس اللجوجة الأمارة بالسوء طائعاً منقاداً حتى واقعة صاحب هذه النفس، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجراح والحسن بن عمران وأبو واقد {فطاوعت} والمعنى كأن القتل يدعو إلى نفسه بسبب الحقد والحسد الذي أصاب قابيل، وكأن النفس تأبي لذلك ويصعب عليها، وكل جهة تريد أن تطيعها الأخرى، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فواقعته، وروي أنه التمس الغرة في قتله حتى وجده نائماً في غنمه فشدخ رأسه بحجر، وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر أو حيوان غيره فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل وروي أنه لما انصرف قابيل إلى آدم قال له أين هابيل قال لا أدري كأنك وكلتني بحفظه فقال له آدم أفعلتها والله إن دمه ليناديني من الأرض، اللهم العن أرضاً شربت دم هابيل، فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دماً، ثم أن آدم صلى الله عليه وسلم بقي مائة عام لم يبتسم حتى جاء ملك فقال له حياك الله يا آدم وبياك فقال آدم: ما بياك؟ قال أضحكك. ويروى أن آدم عليه السلام قال حينئذ:
تغيرت البلادُ ومن عليها *** فوجه الأرض مغبرٌّ قبيح
تغير كل ذي طعم ولون *** وقل بشاشة الوجه المليح
وكذا هو الشعر بنصب بشاشة وكف التنوين، وروي عن مجاهد أنه قال علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.
قال القاضي أبو محمد: فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى: {فأصبح من الخاسرين}: ومن خسرانه ما روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال إنّا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم، ومن خسرانه ما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، وذلك أنه أول من سن القتل» وقوله: {فأصبح} عبارة عن جميع أوقاته أقيم بعض الزمن مقام كله، وخصّ الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومطية النشاط، ومنه قول الربيع بن ضبع:
أصبحت لا أحمل السلاح *** البيت،
ومنه قول سعد بن أبي وقاص، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه.
وقوله تعالى: {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه} روي في معناه أن قابيل جعل أخاه في جراب ومشى به يحمله في عنقه مائة عام.


جمهور الناس على أن قوله: {من أجل ذلك} متعلق بقوله {كتبنا} أي بسبب هذه النازلة ومن جراها كتبنا، وقال قوم: بل هو متعلق بقوله {من النادمين} [المائدة: 31] أي ندم من {أجل} ما وقع، والوقف على هذا على ذلك، والناس على أن الوقف {من النادمين} ويقال أجل الأمر أجلاً وأجلاً إذا جناه وجره، ومنه قول خوات:
وأهل خباء صالح ذات بينهم *** قد احتربوا في عاجل أنا آجله
ويقال فعلت ذلك من أجلك بفتح الهمزة ومن إجلك بكسرها، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ذلك بوصل الألف وكسر النون قبلها، وهذا على أن ألقى حركة الهمزة على النون كما قالوا كم ابلك بكسر الميم ووصل الألف.. ومن ابراهيم بكسر النون و{كتبنا} معناه كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك، وخص الله تعالى: {بني إسرائيل} بالذكر وقد تقدمتهم أمم كان قتل النفس فيهم محظوراً لوجهين، أحدهما فيما روي أن {بني إسرائيل} أو أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسكفهم الدماء، والآخر لتلوح مذمتهم في أن كتب عليه هذا وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون بل همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً، فخصوا بالذكر لحضورهم مخالفين لما كتب عليهم، وقوله تعالى: {بغير نفس} معناه بغير أن تقتل نفساً فتستحق القتل، وقد حرم الله تعالى نفس المؤمن إلا بإحدى ثلاث خصال، كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس ظلماً تعدياً. وهنا يندرج المحارب، والفساد في الأرض بجميع الزنا والارتداد والحرابة، وقرأ الحسن {أو فساداً في الأرض} بنصب الفساد على فعل محذوف وتقديره أو أتى فساداً أو أحدث فساداً، وحذف الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه، وقوله تعالى: {فكأنما قتل الناس جميعاً} اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه، فروي عن ابن عباس أنه قال المعنى من قتل نبياً إو إمام عدل {فكأنما قتل الناس جميعاً} ومن أحياه بأن شد عضده ونصره {فكأنما أحيا الناس جميعاً}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا تعطيه الألفاظ، وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: المعنى من قتل نفساً واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعاً. ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها مخافتي واستحياها أن يقتلها فهو كمن أحيا الناس جميعاً. وقال عبد الله بن عباس أيضاً، المعنى فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً إذ يصلي النار بذلك ومن سلم من قتلها فكأنه سلم من {قتل الناس جميعاً}، وقال مجاهد الذي يقتل الناس جميعاً إذ يصلى النار بذلك جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، يقول لو {قتل الناس جميعاً} لم يزد على ذلك.
ومن لم يقتل أحداً فقد حيي الناس منه، وقال ابن زيد المعنى أي من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من {قتل الناس جميعاً}. قال ومن أحياها أنقذها من حرق أو غرق، وقال قوم لما كان المؤمنون كلهم يطلبون القاتل كان كمن قتل الناس جميعاً.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول متداع ولم يتخلص التشبيه إلى طرف في شيء من هذه الأقوال، والذي أقول إن الشبه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات، لكن الشبه قد تحصل من ثلاث جهات، إحداها القود فإنه واحد، والثانية الوعيد، فقد توعد الله قاتل النفس بالخلود في النار، وتلك غاية العذاب، فإن فرضناه يخرج من النار بعد بسبب التوحيد فكذلك قاتل الجميع ان لو اتفق ذلك، والثالثة انتهاك الحرمة، فإن نفساً واحدة، في ذلك وجميع الأنفس سواء، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع، ومثال ذلك رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئاً، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته وطعم الآخر ثمر شجرته كله، فقد استويا في الحنث، وقوله تعالى: {ومن أحياها} فيه تجوز لأنها عبارة عن الترك والإنقاذ فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع إنما هو لله تعالى. وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمرود، أنا أحيي، سمى الترك إحياء، ومحيي نفس كمحيي الجميع في حفظ الحرمة واستحقاق الحمد، ثم أخبر الله تعالى عن {بني إسرائيل} أنهم جاءتهم الرسل من الله بالبينات في هذا وفي سواه، ثم لم يزل الكثير منهم بعد ذلك في كل عصر يسرفون ويتجاوزون الحدود، وفي هذه الآية إشارة إلى فعل اليهود في همهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره إلى سائر ذلك من أعمالهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8